فصل: ذكر عدّة حوادث:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.سنة اثنتين وثلاثمائة:

في هذه السنة أُمر عليُّ بن عيسى الوزير بالمسير إلى طَرَسُوس لغزو الصائفة، فسار في ألفَيْ فارس معونةً لبشر الخادم والي طَرَسُوس، فلم يتيسّر لهم غزو الصائفة، فغزوها شاتية في برد شديد وثلج.
وفيها تنحّى الحسن بن عليّ الأطروش العلويُّ عن آمل، بعد غلبته عليها، كما ذكرناه، وسار إلى سالوس، ووجّه إليه صُعلوك جيشاً من الرَّيّ، فلقيهم الحسن، وهزمهم، وعاد إلى آمل.
وكان الحسن بن عليّ حسن السيرة، عادلاً، ولم يرَ الناس مثله في عدله، وحُسن سيرته، وإقامته الحقّ، وقد ذكره ابن مِسكويه في كتاب تجارب الأمم فقال: الحسن بن عليّ الداعي، وليس به، إنّما الداعي عليُّ بن القاسم، وهو ختَن هذا على ما ذكرناه.
وفيها قبض المقتدر على أبي عبدالله الحسين بن عبدالله المعروف بابن الجصّاص الجوهريّ، وأخذ ما في بيته من صنوف الأموال، وكان قيمته أربعة آلاف ألف دينار، وكان هو يدّعي أنّ قيمة ما أُخذ منه عشرون ألف ألف دينار وأكثر من ذلك.

.ذكر مخالفة منصور بن إسحاق:

وفي هذه السنة خالف منصور بن إسحاق بن أحمد بن أسد على الأمير نصر بن أحمد، ووافقه على المخالفة الحسينُ بن عليّ المَرْورُوذيُّ، ومحمّد ابن حَيد.
وكان سبب ذلك أنّ الحسين بن عليّ لّما افتتح سِجِسْتان، الدفعة الأولى على ما ذكرناه، للأمير أحمد بن إسماعيل طمع أن يتولاها، فوليها منصور بن إسحاق هذا، فخالف أهلها، وحبسوا منصوراً، فأنفذ الأمير أحمد عليّاً أيضاً، فافتتحها ثانياً، وطمع أن يتولاّها فوليها سيمجور، وقد ذكرنا هذا جميعه.
فلمّا وليها سيمجور استوحش عليٌّ لذلك، ونفر منه، وتحدّث مع منصور بن إسحاق في الموافقة والتعاضد بعد موت الأمير أحمد، وتكون إمارة خراسان لمنصور، ويكون الحسين بن عليّ خليفته على أعماله، فاتّفقا على ذلك فلمّا قُتل الأمير أحمد بن إسماعيل كان منصور بن إسحاق بنيسابور، والحسين بهرَاة، فأظهر الحسين العصيان، وسار إلى منصور يحثّه على ما كانا اتّفقا عليه، فخالف أيضاً، وخطب لمنصور بنيسابور فتوجه إليها من بخارى حموية بن علي في عسكر ضخم لمحاربتهما، فاتّفق أنّ منصوراً مات، فقيل إنّ الحسين بن عليّ سمّه، فلمّا قاربه حموية سار الحسين بن عليّ عن نَيسابور إلى هَراة وأقام بها.
وكان محمّد بن حَيد على شُرطة بخارى مدّة طويلة، فسُيّر من بخارى إلى نَيسابور لشغل يقوم به، فوردها، ثمّ عاد عنها بغير أمر، فكتب إليه من بخارى بالإنكار عليه، فخاف على نفسه، فعدل عن الطريق إلى الحسين بن عليّ بهراة، فسار الحسين بن عليّ من هراة إلى نَيسابور، واستخلف بهراة أخاه منصور بن عليّ، واستولى على نَيسابور، فسُيّر من بخارى إليه أحمد بن سهل لمحاربته، فابتدأ أحمد بهراء فحصرها وأخذها، واستأمن إله منصور بن عليّ، وسار أحمد من هراة إلى نيسابور، وكان وصوله إليها في ربيع الأوّل سنة ستّ وثلاثمائة، فنازل الحسين، وحصره، وقاتله، فانهزم أصحاب الحسين، وأُسر الحسين بن عليّ، وأقام أحمد بن سهل بنَيسابور.
وكان ينبغي أن نذكر استيلاء أحمد على نَيسابور، وأسر الحسين سنة ستّ وثلاثمائة، لكن رأينا أن نجمع سياق الحادثة لئلاّ يُنسى أوّلها.
وأمّا ابن حَيد فإنّه كان بمرو، فلمّا بلغه استيلاء أحمد بن سهل على نَيسابور، وأسره الحسين بن عليّ، سار إليه، فقبض عليه أحمد وأخذ ماله وسواده، وسيّره والحسين بن عليّ إلى بخارى، فأمّا ابن حَيد فإنّه سُيّر إلى خُوارزم فمات بها.
وأمّا الحسين بن عليّ فإنّه حُبس ببخارى إلى أن خلَّصه أبو عبدالله الجيهانيُّ، وعاد إلى خدمة الأمير نصر بن أحمد، فبينما هو يوماً عنده إذ طلب الأمير نصر ماء، فأُتي بماء في كوز غير حسن الصنعة، فقال الحسين بن عليّ لأحمد بن حموية، وكان حاضراً: ألا يهدي والدك إلى الأمير من نَيسابور من هذه الكيزان اللطاف النظاف؟ فقال أحمد: إنّما يُهدي أبي إلى الأمير مثلك ومثلَ أحمد بن سهل، ومثلَ ليلة الديلميّ، لا الكيزان؛ فأطرق الحسين مُفحَماً، وأعجب نصراً قوله.

.ذكر خبر مصر مع العلويّ المهديّ:

وفيها أنفذ أبو محمّد عبيدُ الله العلويُّ الملقّب بالمهديّ جيشاً من إفريقية مع قائد من قوّاده يقال له حُباسة إلى الإسكندريّة، فغلب عليها.
وكان مسيره في البحر، ثمّ سار منها إلى مصر، فنزل بين مصر والإسكندريّة، فبلغ ذلك المقتدر، فأرسل مؤنساً الخادم في عسكر إلى مصر لمحاربة حُباسة، وأمدّه بالسلاح والمال، فسار إليها، فالتقى العسكران في جُمادى الأولى، فاقتتلوا قتالاً شديداً فقُتل من الفريقَيْن جمع كثير، وجُرح مثلهم، ثمّ كان بينهم وقعة أخرى بنحوها، ثمّ وقعة ثالثة ورابعة، فانهزم فيها المغاربة أصحاب العلويّ، وقُتلوا، وأُسروا، فكان مبلغ القتلى سبعة آلاف مع الأسرى وهرب الباقون.
وكانت هذه الوقعة سلخ جمادى الآخرة، وعادوا إلى الغرب، فلمّا وصلوا إلى الغرب قتل المهديُّ حُباسةَ.
وفيها خالف عروبة بن يوسف الكُتاميُّ على المهديّ بالقَيروان، واجتمع إليه خلق كثير من كُتامة والبرابر، فأخرج المهديُّ إليهم مولاه غالباً، فاقتتلوا قتالاً شديداً في محضر القَيروان، فقُتل عروبة وبنو عمّه، وقُتل معهم عالم لا يحصون، وجُمعت رؤوس مقدّميهم في قفّة وحُملت إلى المهديّ، فقال: ما أعجب أمور الدنيا؟؟؟! قد جمعت هذه القفّة رؤوس هؤلاء، وقد كان يضيق بعساكرهم فضاء المغرب.

.ذكر عدة حوادث:

فيها غزا بشر الخادم والي طَرَسُوس بلاد الروم، ففتح فيها وغنم وسبى، وأسر مائة وخمسين بطريقاً، وكان السبي نحواً من ألفَيْ رأس.
وفيها أوقع مؤنس الخادم بناحية وادي الذئاب بمن هنالك من الأعراب من بني شيبان، فقتل منهم خلقاً كثيراً، ونهب بيوتهم فأصاب فيها من أموال التجار التي كانوا أخذوها بقطع الطريق ما لا يحصى.
وفيها في ذي الحجّة ماتت بدعة المغنّية، مولاة عَريب مولى المأمون.
وفيها، في ذي الحجّة، خرجت الأعراب من الحاجر على الحجّاج، فقطعوا عليهم الطريق، وأخذوا من العين وما معهم من الأمتعة والجمال ما أرادوا، وأخذوا مائتين وخمسين امرأة؛ وحجّ بالناس هذه السنة الفضل بن عبد الملك.
وفيها قُلّد أبو الهيجاء عبدالله بن حمدان الموصل.
وفيها مات الشاه بن ميكال.
وفيها، في ليلة الأضحى، انقضّ ثلاثة كواكب كبار اثنان أوّل الليل وواحد آخره سوى كواكب صغار كثيرة.
وإلى آخر هذه السنة انتهى تاريخ أبي جعفر الطبريّ، رحمه الله، ورأيتُ في بعض النسخ إلى آخر سنة ثلاث وثلاثمائة، وقيل إنّ سنة ثلاث هي زيادة فيه، وليس من تاريخ الطبريّ، والله أعلم.
وفيها توفّي إسحاق بن أبي حسّان الأنماطيُّ، وإبراهيم بن شريك، وأبو عيسى بن القزّاز، وأبو العبّاس البرّانيُّ، وعليُّ بن محمّد بن نصر بن بسام الشاعر وله نيّف وسبعون سنة. ثم دخلت:

.سنة ثلاث وثلاثمائة:

.ذكر أمر الحسين بن حمدان:

في هذه السنة خرج الحسين بن حَمدان بالجزيرة عن طاعة المقتدر.
وسبب ذلك أنّ الوزير عليّ بن عيسى طالبه بمال عليه من ديار ربيعة، وهو يتولاّها، فدافعه، فأمره بتسليم البلاد إلى عُمّال السلطان، فامتنع.
وكان مؤنس الخادم غائباً بمصر لمحاربة عسكر المهديّ العلويّ، صاحب إفريقية، فجهّز الوزير رائقاً الكبير في جيش وسيّره إلى الحسين بن حمدان، وكتب إلى مؤنس يأمره بالمسير إلى ديار الجزيرة لقتال الحسين، بعد فراغه من أصحاب العلويّ، فسار رائع إلى الحسين بن حمدان.
وجمع لهم الحسين نحو عشرين ألف فارس، وسار إليهم فوصل إلى الحبشة وهم قد قاربوها، فلّما رأوا كثرة جيشه علموا عجزهم عنه لأنّهم كانوا أربعة آلاف فارس، فانحازوا إلى جانب دجلة، ونزلوا بموضع ليس له طريق إلاّ من وجه واحد، وجاء الحسين فنزل عليهم وحصرهم، ومنع الميرة عنهم من فوق ومن أسفل، فضاقت عليهم الأقوات والعلوفات، فأرسلوا إليه يبذلون له أن يولّيه الخليفة ما كان بيده ويعود عنهم، فلم يجب إلى ذلك.
ولزم حصارهم، وأدام قتالهم إلى أن عاد مؤنس من الشام، فلّما سمع العسكر بقربه قويت نفوسهم وضعفت نفوس الحسين ومَن معه، فخرج العسكر إليه ليلاً وكبسوه، فانهزم وعاد إلى ديار ربيعة، وسار العسكر فنزلوا على الموصل.
وسمع مؤنس خبر الحسين، وجدّ مؤنس في المسير نحو الحسين، واستصحب معه أحمد بن كَيْغَلَغ، فلّما قرب منه راسله الحسين يعتذر، وتردّدت الرسل بينهما، فلم يستقر حال، فرحل مؤنس نحو الحسين حتّى نزل بإزاء جزيرة ابن عمر، ورحل الحسين نحو أرمينية مع ثقله وأولاده، وتفرّق عسكر الحسين عنه، وصاروا إلى مؤنس.
ثمّ إنّ مؤنساً جهّز جيشاً في أثر الحسين، مقدّمهم بُلَيق ومعه سيما الجزريُّ، وجنى الصّفوانيُّ، فتبعوه إلى تل فافان، فرأوها خاوية على عروشها، قد قتل أهلها وأحرقها، فجدّوا في أتّباعه فأدركوه فقاتلوه، فانهزم من بقي معه من أصحابه، وأُسر هو ومعه ابنه عبد الوهّاب وجميع أهله وأكثر مَنْ صَحِبه، وقبض أملاكه.
وعاد مؤنس إلى بغداد؟؟؟؟؟؟؟ على طريق الموصل والحسين معه، فأُركب على جمل هو وابنه وعليهما البرانس، واللبود الطوال، وقمصان من شعر أحمر، وحُبس الحسين وابنه عند زيدان القهرمانة، وقبض المقتدر على أبي الهيجاء بن حمدان وعلى جميع إخوته وحُبسوا، وكان قد هرب بعض أولاد الحسين بن حمدان، فجمع جمعاً ومضى نحو آمِد، فأوقع بهم مستحفظها، وقتل ابن الحسين وأنفذ رأسه إلى بغداد.

.ذكر بناء المهديّة:

في هذه السنة خرج المهديُّ بنفسه إلى تونس وقرطاجَنّة وغيرهما يرتاد موضعاً على ساحل البحر يتّخذ فيه مدينة.
وكان يجد في الكتب خروج أبي يزيد على دولته، ومن أجله بنى المهديّة، فلم يجد موضعاً أحسن ولا أحصن من موضع المهديّة، وهي جزيرة متّصلة بالبّر كهيئة كفّ متّصلةٍ بزند، فبناها وجعلها دار ملكه، وجعل لها سوراً محكماً وأبواباً عظيمة وزْن كلّ مصراع مائة قنطار.
وكان ابتداء بنائها يوم السبت لخمس خلون من ذي القعدة سنة ثلاث وثلاثمائة، فلّما ارتفع السور أمر رامياً أن يرمي بالقوس سهماً إلى ناحية المغرب، فرمى سهمه فانتهى إلى موضع المصلّى، فقال: إلى موضع هذا يصل صاحب الحمار، يعني أبا يزيد الخارجيّ، لأنّه كان يركب حماراً.
وكان يأمر الصُّنّاع بما يعملون، ثمّ أمر أن ينقر دار صناعة في الجبل تسع مائةَ شيني، وعليها باب مغلق؛ ونقر في أرضها أهراء للطعام، ومصانع للماء، وبنى فيها القصور والدور، فلّما فرغ منها قال: اليوم أمنتُ على الفاطميّات، يعني بناته، وارتحل عنها.
ولّما رأى إعجاب الناس بها، وبحصانتها، كما يقول: هذا لساعة من نهار، وكان كذلك لأنّ أبا يزيد وصل إلى موضع السهم، ووقف فيه ساعة، وعاد ولم يظفر.

.ذكر عدّة حوادث:

فيها أغارت الروم على الثغور الجزريّة، وقصدوا حصن نصور، وسبوا مَن فيه، وجرى على الناس أمر عظيم، وكانت الجنود متشاغلة بأمر الحسين ابن حمدان.
وفيها عاد الحُجّاج وقد لقوا من العطش والخوف شدّة، وخرج جماعة من العرب على أبي حامد ورقاء بن محمّد المرتّب على الثعلبيّة لحفظ الطريق، فقاتلهم، وظفر بهم، وقتل جماعة منهم، وأسر الباقين وحملهم إلى بغداد، فأمر المقتدر بتسليمهم إلى صاحب الشُّرطة ليحبسهم، فثارت بهم العامة فقتلوهم وألقوهم في دجلة.
وفيها ظهر بالجامدة إنسان زعم أنّه علويّ فقتل العامل بها ونهبها، وأخذ من دار الخراج أموالاً كثيرة، ثمّ قُتل بعد ظهوره بيسير، وقُتل معه جماعة من أصحابه، وأُسر جماعة.
وفيها ظهرت الروم وعليهم الغثيط فأوقعوا بجماعة من مقاتلة طَرَسُوس والغزاة، فقتلوا منهم نحو ستّمائة فارس، ولم يكن للمسلمين صائفة.
وفيها خرج مليح الأرمنيُّ إلى مَرْعَش،! فعاث في بلدها، وأسر جماعة ممّن حولها وعاد.
وفيها وقع الحريق ببغداد في عدّة مواضع، فاحترق كثير منها.
وفيها توفّي أبو عبد الرحمن أحمد بن علي بن شعيب النسائي، صاحب كتاب السُّنَن، بمكّة، ودُفن بين الصفا والمروة؛ والحسن بن سفيان النسويُّ.
وفيها توفّي أبو بكر محمّد بن عينونة بنَصِيبين، وكان يتولّى أعمال الخراج والضياع بديار ربيعة، ولّما توفّي وليَ ابنه الحسن مكانه.
وفيها توفّي أبو عليّ محمّد بن عبد الوهّاب الجُبائيُّ المعتزليُّ.
وفيها توفّي يموت بن المزرّع العبديُّ، وهو ابن أخت الجاحظ، توفّي بدمشق. ثم دخلت:

.سنة أربع وثلاثمائة:

.ذكر عزل ابن وهسوذان عن أصبهان:

في هذه السنة، في المحرم، أرسل عليُّ بن وهسوذان، وهو متولّي الحر بأصبهان، غلاماً كان ربّاه وتَبنّاه إلى أحمد بن شاه، متولّي الخراج، في حاجة فلقيه راكباً فكلّمه في حاجة مولاه، ورفع صوته، فشتمه أحمد وقال: يا مؤاجر تكلّمني بهذا على الطريق! وحرد عليه، فعاد إلى مولاه باكياً، وعرّفه ذلك، فقال: صدق، لولا أنّك مؤاجر لقتلتَه؛ فعاد الغلام فلقيه وهو راكب فقتله، فأنكر الخليفة ذلك، وصرف عليَّ بن وهسوذان عن أصبهان، وولّى مكانه أحمد بن مسرور البَلْخيّ، وأقام ابن وهسوذان بنواحي الجبل.

.ذكر وزارة ابن الفرات الثانية وعزل عليّ بن عيسى:

في هذه السنة، في ذي الحجّة، عُزل عليُّ بن عيسى عن الوزارة، وأُعيد إليها أبو الحسن عليُّ بن الفرات.
وكان سبب ذلك أنّ أبا الحسن بن الفرات كان محبوساً، وكان المقتدر يشاوره وهو في محبسه، ويرجع إلى قوله؛ وكان عليُّ بن عيسى يمشّي أمر الوزارة، ولم يتبع أصحاب ابن الفرات وأسبابه لا غيره، وكان جميل المحضر، قليل الشرّ، فبلغه أنّ أبا الحسن بن الفرات قد تحدّث له جماعة من أصحاب الخليفة في إعادته إلى الوزارة، فسارعَ واستعفى من الوزارة، وسأل في ذلك، فأنكر المقتدر عليه، ومنعه من ذلك، فسكن.
فلّما كان آخر ذي القعدة جاءته أمّ موسى القهرمانة لتتفّق معه على ما يحتاج حرم الدار والحاشية التي للدار من الكسوات والنفقات، فوصلتْ إليه وهو نائم، فقال لها حاجبه: إنّه نائم ولا أجسر أن أوقظه، فاجلسي في الدار ساعةً حتّى يستيقظ؛ فغضبت من هذا وعادت، واستيقظ عليُّ بن عيسى في الحال، فأرسل إليها حاجبَه وولده يعتذر، فلم يُقْبَلْ منه، ودخلت على المقتدر وتحرصت على الوزير عنده وعند أمّه، فعزله عن الوزارة، وقبض عليه ثامن ذي القعدة.
وأُعيد ابن الفرات إلى الوزارة، وضمن على نفسه أن يحمل كلّ يوم إلى بيت المال ألف دينار وخمسمائة دينار، فقبض على أصحاب الوزير عليّ بن عيسى وعاد فقبض على الخاقانيّ الوزير وأصحابه، واعترض العُمّال وغيرهم، وعاد عليهم بأموال عظيمة ليقوم بما ضمنه.
وكان عليُّ بن عيسى قد تعجّل بمال من الخراج لينفقه في العيد، فاتّسع به ابن الفرات.
وكان قد كاتب العمّالَ بالبلاد كفارس، والأهواز، وبلاد الجبل، وغيرها في حمل المال، وحثّهم على ذلك غاية الحثّ، فوصل بعد قبضه، فادّعى ابن الفرات الكفاية والنهضة في جمع المال.
وكان أبو عليّ بن مثقلة مستخفياً مُذ قُبض ابن الفرات إلى الآن، فلّما عاد ابن الفرات إلى الوزارة ظهر، فاشخصه ابن الفرات وقرّبه.

.ذكر أمر يوسف بن أبي الساج:

كان يوسف بن أبي الساج على أذربيجان وأرمينية قد وليَ الحربَ، والصلاة، والأحكام، وغيرها، منذ أوّل وزارة ابن الفرات الأولى، وعليه مال يؤدّيه إلى ديوان الخلافة، فلمّا عُزل ابن الفرات ووليَ الخاقانيُّ الوزارة، وبعده عليُّ بن عيسى، طمع فأخَّر حمل بعض المال، فاجتمع له ما قويت به نفسه على الامتناع، وبقي كذلك إلى هذه السنة.
فلمّا بلغه القبض على الوزير عليّ بن عيسى أظهر أن الخليفة أنفذ له عهداً بالرَّي، وأنّ الوزير عليّ بن عيسى سعى له في ذلك، فأنفذه إليه، وجمع العساكر وسار إلى الرَّيّ وبها محمّد بن عليّ صُعلوك يتولّى أمرها لصاحب خُراسان، وهو الأمير نصر بن أحمد بن إسماعيل السامانيُّ، وكان صُعلوك قد تغلّب على الرَّيّ وما يليها، أيّام وزارة عليّ بن عيسى، ثمّ أرسل إلى ديوان الخلافة فقاطع عليها بمال يحمله، فلمّا بلغه مسير يوسف بن أبي الساج نحوه سار إلى خُراسان، فدخل يوسف الرَّيّ واستولى عليها وعلى قزوين وزنجان وأبهر، فلمّا بلغ المقتدر فعله، وقوله إنّ عليّ بن عيسى أنفذ له العهد واللواء بذلك، أنكره واستعظمه.
وكتب يوسف إلى الوزير ابن الفرات يعرّفه أنّ عليّ بن عيسى أنفذ إليه بعهده على هذه الأماكن، وأنّه افتتحها وطرد عنها المتغلّبين عليها، ويعتذر بذلك، ويذكر كثرة ما أخرجه، فعظم ذلك على المقتدر، وأمر ابن الفرات أن يسأل عليَّ بن عيسى عن الذي ذكره يوسف، فأحضره وسأله، فأنكر ذلك وقال: سلوا الكتّاب وحاشية الخليفة، فإنّ العهد واللواء لا بدّ أن يسير بهما بعض خدم الخليفة، أو بعض قوّاده؛ فعلموا صدقه.
وكتب ابن الفرات إلى ابن أبي الساج ينكر عليه تعرّضه لهذه البلاد، وكذبه على الوزير عليّ بن عيسى، وجهّز العساكر لمحاربته، وكان مسير العساكر سنة خمس وثلاثمائة.
وكان المقدّم على العسكر خاقان المُفلطحي، ومعه جماعة من القوّاد كأحمد ابن مسرور البَلْخيّ، وسيما الجزريّ، ونحرير الصغير، فساروا، ولقوا يوسف، واقتتلوا، فهزمهم يوسف، وأسر منهم جماعة، وأدخلهم الرَّيّ مشهورين على الجمال، فسيّر الخليفة مؤنساً الخادم في جيش كثيف إلى محاربته، فسار، وانضم إليه العسكر الذي كان مع خاقان، فصُرف خاقان عن أعمال الجبل، ووليها نحرير الصغير.
وسار مؤنس فأتاه أحمد بن عليّ، وهو أخو محمّد بن عليّ صعلوك، مستأمناً، فأكرمه ووصله؛ وكتب ابن أبي الساج يسأل الرضى، وأن يقاطع على أعمال الريّ وما يليها على سبعمائة ألف دينار لبيت المال، سوى ما يحتاج إليه الجند وغيرهم، فلم يجبه المقتدر إلى ذلك، ولو بذل مِلء الأرض لما أقرّه على الريّ يوماً واحداً لإقدامه على التزوير، فلمّا عرف ابن أبي الساج ذلك سار عن الريّ بعد أن أخربها، وجبى خراجها في عشرة أيّام.
وقلّد الخليفة الريّ وقَزوين وأبهر وصيفاً البكتمريَّ، وطلب ابن أبي الساج أن يقاطع على ما كان بيده من الولاية، فأشار ابن الفرات بأجابته إلى ذلك فعارضه نصر الحاجب، وابن الحواريّ، وقالا: لا يجوز أن يجاب إلى ذلك إلاّ بعد أن يطأ البساط.
ونسب ابن الفرات إلى مواطأة ابن أبي الساج والميل معه، فحصل بينهما وبين ابن الفرات عداوة، فامتنع المقتدر من إجابته إلى ذلك إلى أن يحضر في خدمته بنفسه، فلمّا رأى يوسف أنّ دمه على خطر إن حضر لخدمته حارب مؤنساً، فانهزم مؤنس إلى زنجان، وقُتل من قوّاده سيما بن بويه، وأسر جماعة منهم، فيهم هلال بن بدر، فأدخلهم أردبيل مشتهرين على الجمال.
وأقام مؤنس بزنجان يجمع العساكر، ويستمدّ الخليفة، وكاتبه ابن أبي الساج في الصلح، وتراسلا في ذلك، وكتب مؤنس إلى الخليفة، فلم يجبه إلى ذلك، فلمّا كان في المحرّم سنة سبع وثلاثمائة، والوزير يومئذ حامد بن العبّاس، اجتمع لمؤنس عسكر كبير، فسار إلى يوسف، فتواقعا على باب أردبيل، فانهزم عسكر يوسف، وأُسر يوسف وجماعة من أصحابه، وعاد بهم مؤنس إلى بغداد، فدخلها في المحرّم أيضاً، وأدخل يوسف أيضاً بغداد مشتهراً على جمل، وعليه برنس بأذناب الثعالب، فأُدخل إلى المقتدر، ثمّ حُبس بدار الخليفة عند زيدان القهرمانة.
ولمّا ظفر مؤنس بابن أبي الساج قلّد عليَّ بن وهسوذان أعمال الريّ، ودنباوند، وقَزوين، وأبهر، زنجان، وجعل أموالها لرجاله، وقلّد أصبهان، وقُمّ، وقَاشان، وساوة لأحمد بن عليّ بن صعلوك، وسار عن أذربيجان.

.ذكر حال هذه البلاد بعد مسير مؤنس:

لمّا سار مؤنس عن أذربيجان إلى العراق وثب سُبُك غلام يوسف بن أبي الساج على بلاد أذربيجان، فملكها، واجتمع إليه عسكر عظيم، فأنفذ إليه مؤنس محمّدَ بن عبيدالله الفارقيَّ، وقلّده البلاد، وسار إلى سُبُك وحاربه، فانهزم الفارقيُّ وسار إلى بغداد، وتمكّن سُبُك من البلاد، ثمّ كتب إلى الخليفة يسأل أن يقاطع على أذربيجان، فأجيب إلى ذلك، وقُرّر عليه كلّ سنة مائتان وعشرون ألف دينار، وأُنفذت إليه الخلع والعهد، فلم يقف على ما قرّره.
ثمّ وثب أحمد بن مسافر، صاحب الطرم، على ابن أخيه عليّ بن وهسوذان وهو مقيم بناحية قزوين، فقتله على فراشه، وهرب إلى بلده، فاستعمل مكان عليّ بن وهسوذان وصيفاً البكتمريَّ، وقلّد محمّد بن سليمان صاحب الجيش أعمال الخراج بها.
وسار أحمد بن عليّ بن صعلوك من قُمّ إلى الريّ، فدخلها، فأنفذ الخليفة ينكر عليه ذلك ويأمره بالعود إلى قمّ فعاد، ثمّ إنّه أظهر الخلاف، وصرف عمّال الخراج عن قمّ، واستعدّ للمسير إلى الريّ، فكوتب نحرير الصغير، وهو على هَمذان، ليسير هو ووصيف إلى الريّ لمنع أحمد بن عليّ عنها فساروا إليها، فلقيهم أحمد بن عليّ على باب الريّ، فهزمهم أحمد، وقُتل محمّد ابن سليمان، واستولى أحمد على الريّ، وكاتب نصراً الحاجب ليصلح أمره مع الخليفة، ففعل ذلك، وأصلح أمره، وقرّر عليه عن الريّ ودنباوند وقَزوين وزنجان وأبهر مائة وستّين ألف دينار محمولة كلّ سنة إلى بغداد، فنزل أحمد عن قمّ، فاستعمل الخليفة عليها من ينظر فيها.

.ذكر تغلّب كثير بن أحمد على سجستان ومحاربته:

كان كثير بن أحمد بن شهفور قد تغلّب على أعمال سجستان، فكتب الخليفة إلى بدر بن عبدالله الحمّاميّ، وهو متقلّد أعمال فارس، يأمره أن يرسل جيشاً يحاربون كثيراً، ويؤمّر عليهم دردا، ويستعمل على الخراج بها زيد ابن إبراهيم، فجهّز بدر جيشاً كثيفاً وسيّرهم، فلمّا وصلوا قاتلهم كثير، فلم يكن له بهم قوّة، وضعف أمره وكادوا يملكون البلد، فبلغ أهل البلد أنّ زيداً معه قيود وأغلال لأعيانهم، فاجتمعوا مع كثير، وشدّوا منه، وقاتلوا معه، فهزموا عسكر الخليفة، وأسروا زيداً، فوجدوا معه القيود والأغلال، فجعلوها في رجليه وعنقه.
وكتب كثير إلى الخليفة يتبرّأ من ذلك، ويجعل الذنب فيه لأهل البلد، فأرسل الخليفة إلى بدر الحمّاميّ يأمره أن يسير بنفسه إلى قتال كثير، فتجهّز بدر، فلمّا سمع كثير ذلك خاف، فأرسل يطلب المقاطعة على مال يحمله كل سنة، فأُجيب إلى ذلك، وقوطع على خمسمائة ألف درهم، وقُرّرت البلاد عليه.